بثت ”القناة العاشرة“ الإسرائيلية الأسبوع الماضي تقريراً تلفزيونياً عن تجنيد الفلسطينيتين نادين توما، من قرية الجش الجليلية، ورغدة جرايسة، من مدينة الناصرة، في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي. وتطل علينا وسائل الإعلام الإسرائيلية بين الحين والآخر بتقارير عن بعض هؤلاء المتطوعين وتغطيات إخبارية مطولة، يثنون فيها على أنفسهم كما تثني وسائل الإعلام عليهم. لكن الكثير من هذه التقارير والمقالات لها طابع ”البروباغاندا“ وتلميع صورة الجيش وإيصال رسائل للفلسطينيين حاملي الجوازات الإسرائيلية، بغية تخويفهم وإسكاتهم. سأقف في هذا المقال عند التقرير التلفزيوني وعند مقال آخر لقراءة السياق الذي يؤطر موضوع التجنيد، والمحاولات التي تجري منذ فترة وعلى قدم وساق، لتجنيد فلسطينيي الداخل، وخاصة المسيحيين منهم، ضمن صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي أو في المشروع البديل له - في ”الخدمة المدنية“.
”تقاسم العبء“ والتجنيد الإلزامي
صادقت الحكومة الاسرائيلية في السابع من الشهر الجاري مشروع قانون "بيري". ويلزم هذا المشروع اليهود المتشددين (طلبة المعاهد الدينية ”الحريديم“) بالتجنيد في الجيش بعد انتهاء العمل بقانون ”طال“ الذي كان يعفيهم منه حتى الآن. لكن نتانياهو لم يفوت الفرصة للتصريح لوسائل الإعلام حول التجنيد الإلزامي للفلسطينيين، حاملي الجوازات الإسرائيلية، حيث قال ”إنني أعلق أهمية كبيرة على دمج ”عرب إسرائيل“ في المساواة في العبء، ففي المبنى الجديد للقانون، الذي يعرض، هناك تطرق للموضوع، وبرأيي ما زال ليس متكاملاً، ونحتاج لمواصلة معالجة الموضوع حتى استكماله"!
لقد رأت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية منذ النكبة إلى يومنا هذا، الضرورة القصوى في الربط بين العسكري والسياسي. ففي آب 1948، عمّم رئيس أركان الجيش يعكوف دوري، أمراً يعلم فيه أقسام الجيش عن قيام وحدة ”الأقليات“. وقبل أن يشغل دوري ذلك المنصب، كان ولسنوات رئيس فرق ”الهاجانا“ الصهيونية. ويشير دوري في الأمر الذي عممه إلى أن قائد وحدة ”الأقليات“ يعيّن بالتنسيق مع القسم السياسي لوزارة الخارجية وينسق معها في كل مهمة ذات أوجه سياسية مناطة به. إن الربط بين العسكري والسياسي في مجالات وطرق شتى أمر في غاية الأهمية سوف أحاول الوقوف عند أهم جوانبه.
جرى تمرير قانون التجنيد الإلزامي عام 1949 وكان آخر تعديل له عام 1986. وينص القانون على أن جميع الإسرائيلين الذين تزيد أعمارهم عن 18 عاماً يجب أن يجندوا، إلا إذا تم إعفاؤهم. ويستثنى من القانون اليهود الذين يدرسون في المعاهد الدينية (حريديم) والسيدات المتدينات، إضافة إلى الفلسطينيين. وفي عام 1956، صدر قانون يلزم دروز فلسطين بالخدمة العسكرية. وقد عارضت هذا القانون قيادات درزية عديدة وتخاذلت أخرى. لكنه واجه معارضة على أرض الواقع بين الدروز. واستخدمت السلطات الإسرائيلية أساليب عدة منها الملاحقة والتهديد بحبس أهالي الفارين من الخدمة وما إلى ذلك من أساليب بغية إخضاعهم للتجنيد. إن نسبة الرافضين من بين الدروز، للخدمة العسكرية، تبقى قليلة، على الرغم من زيادة عدد الأفراد الذين يصرحون علناً رفضهم للخدمة العسكرية، وبذلك يعرضون أنفسهم للسجن وما إلى ذلك من عقاب محتمل. (أنظر مقال سعيد نفاع في هذا الصدد). كما عقدت اتفاقات مع بعض القبائل البدوية في شمال ونقب فلسطين، يتطوع قسم من ابناءها للخدمة ضمن صفوف جيش الاحتلال، إلا أن أغلبية بدو فلسطين لا تدعم ذلك.
المثير في موضوعنا هنا أمران: أولاً الإهتمام الإعلامي الذي يحظى به المجندون المتطوعون في الجيش، مسلمون ومسيحيون. وأما الأمر الثاني فيتعلق بالأصوات التي تجاهر، منذ حوالي العام، منادية بتجنيد الفلسطينيين ضمن صفوف جيش الإحتلال، والمسيحيين الفلسطينيين بصورة خاصة. فقد شهد شهر تشرين الأول من العام الماضي تشكيل ”منتدى تجنيد الطائفة المسيحية“، والذي يدعم ويطالب بضرورة التجنيد من أجل ”خدمة الدولة“ والإنخراط في كل مؤسساتها دون أي استثناء. ويأتي هذا في وقت عارضت فيه الكنيسة في فلسطين، وما زالت تعارض، تجنيد المسيحيين. كما أصدرت "لجنة العدل والسلام" المنبثقة عن مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة، والتي يرأسها البطريرك ميشيل صبّاح، بطريرك اللاتين السابق، بياناً في هذه الصدد تقدم فيه الموقف الرسمي للكنيسة الرافض لتجنيد المسيحيين الفلسطينيين.
يبدو أن هناك مساع لتشكيل منتدى مشابه للمسلمين تحت اسم ”منتدى تجنيد الطائفة الإسلامية“. وتأتي هذه المساعي في فترة يواجه فيها فلسطينيو الداخل قوانين وحملات قوية من أجل ”دمجهم“ وطمس هويتهم العربية والفلسطينية لم تتوقف منذ النكبة لكنها أخذت في الأونة الأخيرة تصعيداً ملحوظاً، آخرها كان مخطط ”برافر“لمصادرة 850 ألف دونم من أراضي النقب وتهجير أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني داخل وطنهم. ولا يقتصر دور هذه االتقارير الإعلامية الإسرائيلية حول المتطوعين من الفلسطينيين ضمن صفوف جيش الاحتلال، على التمجيد والدعاية، بل تذهب إلى ما هو أخطر من مجرد ذلك.
تقرير "القناة العاشرة"
[تقرير "القناة العاشرة" الإسرائيلية عن نادين توما ورغدة جرايسة]
يبدأ التقرير بصور الترحيب الرسمي بالمجندات الجدد. تودع الفتاتان الأهل وتصعدان مع ”رفيقات السلاح“ من الإسرائيليات إلى الباص. نعرف خلال الثواني الأولى من التقرير، أن ندين ورغدة مسيحيتان (سنعود لاحقاً إلى هذه النقطة)، وأنهما المسيحيتان الوحيداتان في ”دفعتهما“ لهذا الصيف في كل البلاد. وتقول نادين في كلمتها الأولى في التقرير:
نادين:” يوجد في قريتي معارضة لتجنيدي. ولكنني أعرف جيداً ما الذي أقوم به وما هو الأفضل بالنسبة لي. وهذا يصب في مصلحتي.“ يليها مباشرة صوت من رغدة جرايسة، التي يركز بقية التقرير عليها: رغدة: ”من حقنا نحن، كمسيحيين إسرائيليين، نتحدّث اللغة العربية، لكن قوميتنا هي الآرامية، أن نخدم الدولة [في الجيش] بفخر ودون أن نخجل من ذلك.“
يعود بنا التقرير إلى الساعات التي سبقت الذهاب إلى طبريا، حيث نقطة التجمع للمجندات. صباح ”عادي“ مع والديّ نادين وهما يشربان القهوة العربية (أو ربّما هي الأخرى آراميّة!) في قرية الجش، الواقعة في أقصى شمال فلسطين قرب الحدود اللبنانية. وكأن الحدث، أي تجنّد ابنتهما وصديقتها، أمر طبيعي. يخبرنا التقرير أن هذه القرية يسكنها ”المسلمون والمسيحيون“ وأن نادين هي ”المسيحية“ الأولى االتي تتجند من قريتها. كما تقول لنا الصحفية التي أعدت التقرير، أن الدرب كانت محفوفة بالمصاعب أمام الفتاتين من لحظة موافقة الجيش على خدمتهما وحتى يوم التجنيد! إلا أننا لا ندري ما هي هذه المصاعب، والتي يبدو أن المقصود فيها معارضة ونبذ أغلبية الفلسطينيين في الداخل للتجنيد. لكن رغدة تنتدب نفسها للحديث باسم كافة المسيحيين الفلسطينيين: رغدة: ”... [عندما يتطوع مسيحيون في الجيش] يشتمونهم ويهددون عائلتهم.“ ثم تعلق الصحفية قائلة ”أقيمت مؤخراً لجنة بغية العمل على تشجيع تجنيد المسيحيين. وأتى عمل هذه اللجنة بثماره“. وتعود رغدة لتحدثنا عن هذه الثمار:
رغدة: ”بالنسبة لي فإن أي شخص متطرف يعيش في إسرائيل ويعتقد أنه فلسطيني، غير مجبر على البقاء هنا [عليه المغادرة]. هذا الشخص صفر... عليه أن يذهب إلى غزة مثلما ذهبت حنين زعبي. سوف يستقبلوهم بفرح وابتهاج“.
ويشير التقرير إلى رسالة بعثتها حنين الزعبي، عضوة الكنيست عن حزب التجمع، وطالبت فيها الأب جبرائيل نداف، وهو كاهن سابق، عزلته الكنيسة، لطائفة الروم الارثوذكس في يافة الناصرة، بالتوقف عن دعوة فلسطينيي الداخل، والمسيحيين خاصة، للإنضمام إلى صفوف الجيش. هذا بعدما شارك نداف الخريف الماضي في مؤتمر للترويج للخدمة في الجيش الإسرائيلي، دعمته مؤسسات رسمية إسرائيلية، صرّح فيه علانية عن مواقفه المؤيدة والداعية لتجنيد الفلسطينيين لصفوف جيش الاحتلال. وسرعان ما جاء الرد مجلس طائفة الروم الأرثوذكس على تصريحاته في بيان لها عممته على الصحافة: "بما أن المجلس هو صاحب مُلك كنيسة البشارة الأرثوذكسية في الناصرة فإنه يُقر منع الكاهن جبرائيل نداف من مزاولة الكهنوت داخل الكنيسة بأي شكل من الأشكال وفرض الحرمان الكامل عليه من قبل جميع مؤسسات الطائفة، وندعو الجميع إلى مقاطعته هو ومن شارك في هذا المؤتمر المهزلة ليكون عبرة للجميع ودرسًا لكُل من يُفكر أن يحذو حذوه".
لكن تقرير القناة الإسرائيلية لا يذكر هذا الرد وردود أخرى وينهمك بالتركيزعلى موقف زعبي من الأب المعزول. رغدة: ”بأي حق تتكلم باسمنا. من أعطاها التفويض للحديث عنا؟ لا أحد! هي عربية [حنين زعبي] ولكن أنا لست عربية. أنا إسرائيلية“. للتذكير فقط، فإن زعبي عضوة منتخبة في البرلمان عن قائمة عربية، ومن الناصرة التي تعيش فيها رغدة. رغدة: ”هذا هو أمر التجنيد وإذا أرادت حنين زعبي أن أرسل لها منه نسخة فسأقوم بذلك بكل سرور.“ والدة رغدة: ”هي بطلة وربما ستصل إلى رتبة ضابطة في الجيش...“ رغدة: ”ستأتي (ستتجند) الكثيرات من بعدي...“
الجزء الأول من الرسائل
نجح التقرير، الذي لا تزيد مدته عن دقيقتين وثماني وثلاثين ثانية، ببراعة في إيصال عدة رسائل، أهمها أن ”المسيحيين العرب ليسوا عرباً، بل هم مسيحيون فقط!“ تطغى هنا الديانة المسيحية لتصبح ”كل“ وليس جزء من هوية فلسطينية عربية. وتتضخّم هنا لتصبح هويّة قومية. وتتكرر مفردة ”مسيحي“ ثمان مرات وتُستعمل كمرادف لقومية وليس لوصف ديانة.
إن هذا الخطاب ليس بجديد على دولة إسرائيل ومؤسساتها الرسمية وهو دارج في الأخبار أو في الخطابات العامة أو حتى عند الحديث مع الإسرائيلين الذين يصرّ معظمهم على وضع الفلسطيني في خانة دينية أو قومية (مسلم، مسيحي، درزي) وقد يسألون: ”هل أنت عربي أم مسيحي؟“ على افتراض أن الواحد يلغي الآخر. إنها سياسة التفرقة المستخدمة منذ النكبة لأهداف سياسية واضحة لخلق وترسيخ الانقسامات في المجتمع الفلسطيني. إلا أن الملفت للنظر هو تكثيف استخدام هذه السياسة في هذا الوقت بالذات، ما يستحضر السؤال حول الأسباب وراء تركيز الدولة بمؤسساتها المختلفة في السنة الأخيرة على المسيحيين الفلسطينيين بالذات في دعوات التجنيد؟
لا شك أن الحكومة الإسرائيلية تستغل التوتر الطائفي وتصاعد الخطاب الطائفي الذي تشهده المنطقة عامة والذي تروّج له الكثير من القنوات الفضائية والمنابر الإعلامية، وتعيد إنتاجه الحركات الإسلامية المتطرفة التي تتبنى هذا الخطاب وتحرّض ضد المسيحيين. إضافة إلى استغلال الأنظمة الدكتاتورية العربية لذلك، وتغذية النعرات ”الطائفية والمذهبية“. كما شهدت دول عديدة في المنطقة هجوم وقتل مسيحيين عرب في دول كالعراق ومصر. إن المشهد الفلسطيني، وإن كان بعيداً عن ما يحدث من استهداف للمسيحيين إلا أنه ليس بمنأى عن محيطه ولا يعني أنه غير قابل للتأثر بذلك. ولذلك ليس بغريب على السلطات الإسرائيلية أن تستغل هذه الأجواء لتسجيل نقاط لصالحها كي تمعن في محاولات شرذمة الداخل الفلسطيني.
أضف إلى ذلك، ”أسلمة“ قوى فلسطينية رئيسية، كحركة حماس، للقضية الفلسطينية، مما يؤثر على الخطاب العام. فعلى سبيل المثال، الحديث عن تهديد للمقدسات الإسلامية دون ذكر أي من تلك المسيحية لن تكون نتيجته إلا شعور المسيحيين بالغربة في وطنهم، ليس فقط على الصعيد السياسي ككل الفلسطينيين، ودفعهم للإحتماء بهوية ثانوية وتحويلهم إلى ”طائفة“ بغض النظر عن درجة تدينهم أو حتى إيمانهم. بحيث تصبح راية ”الإسلام“ و“الخلافة الإسلامية“ هي الراية التي من المفترض أن نتوحد جميعاً تحتها! ليصبح شعار المرحلة ”الوطن لله والدين ”الإسلامي“ للجميع! بدلاً من أن يكون”الدين لله والوطن للجميع“. أضف إلى كل ذلك، إن أسلمة النضال تؤدي، عن قصد أو دونه، إلى تبني الخطاب الصهيوني حول فلسطين، أي أن الصراع هو صراع يهودي - إسلامي وليس صراع شعب على أرضه ضد استعمار استيطاني يأخذ الدين (اليهودي) كذريعة ليبرر ما يريد. إن قضية فلسطين وصراعها لم تكن أبداً ضد اليهودية كدين أو ”قومية“، بل ضد الإحتلال والصهيونية الاستعمارية. ولذلك علينا أن لا نستغرب أن يؤدي كل هذا إلى تجذّر الخطاب الطائفي الذي تحصد ثماره الصهيونية ودولتها.
عودة إلى تهديد الفلسطينيين بالترحيل ”الترنسفير“
يذهب التقرير إلى ما هو أبعد من الحديث عن الإنتماءات القومية والدينية لإيصال رسالة، على لسان رغدة، إلى كل من تسول له نفسه من فلسطينيي الداخل، يجاهر بأنه فلسطيني أو جزء من الشعب الفلسطيني. فالأمر الذي يبدو بديهياً وحق من الحقوق الأساسية في أي مكان في العالم، أي أن تختار هويتك، يصبح هنا ”تطرفاً وتعصباً“. أعيد كلام رغدة مرة أخرى: ”بالنسبة لي، إن أي شخص متطرف يعيش في إسرائيل ويعتقد أنه فلسطيني، فهو غير مجبر على البقاء هنا [عليه المغادرة]. هذا الشخص صفر... عليه أن يذهب إلى غزة مثلما ذهبت حنين زعبي. سوف يستقبلوهم بفرح وابتهاج“. المهم هنا، أن الدعوة للترحيل والمغادرة ونعت البوح والإعلان عن الانتماء لفلسطين وثقافتها بالتطرف، لا تأتي هذه المرة على لسان إسرائيلي، بل على لسان فتاة عربية، وهكذا لا يمكن أن يأتي أحد ويقول ”اليهود الإسرائيليون يهددوننا بـ”الترنسفير“، لأننا نقول إننا فلسطينيون.“ بل إن من ينعت التشبث بالهوية الفسطينيية بالتطرف، هي فتاة عربية لكن مع فارق أنها تريد العيش ”بسلام ومساواة“ في هذه الدولة الديمقراطية ”الفاضلة.“
قد لا تريد إسرائيل تجنيد كل العرب ضمن صفوف جيشها، لأسباب عدة أهمها إنعدام الثقة، والمعارضة الشديدة التي تكنها الأغلبية الفلسطينية للتجنيد ضمن صفوف جيش أسس على نكبتهم ونكبة بقية أبناء شعبهم. إضافة إلى الأعباء المادية واللوجستية الناجمة عن ذلك. لكن المطلوب هو تجنيد البعض ليكونوا عينات وواجهة أو ”كوتا“ للخارج ولكسر شوكة فلسطينيين آخرين. فوجود جندي فلسطيني ضمن صفوف جيش يحتلك ويضطهدك يشكل عاملاً نفسياً لا يستهان به وبعمق أثره السلبي. ”فتنسى“ الإحتلال المسؤول عن قمعك وتتذكر وجه فلسطيني/ة آخر يقمعك. وليس صدفة أن تستخدم قوات الجيش والشرطة بكثافة مجنديها من العرب لمكافحة وقمع المتظاهرين مثلاً.
سأدرج بإختصار مثالين عن طريقتين إضافيتين لاستخدام مسألة التجنيد وتلميع صورة الجيش إعلامياً ومحلياً ودولياً. إضافة إلى توظيفها لخدمة رسائل أخرى لا تقل خطورة عما أسلفنا سابقاً.
”أنا عربي، مسلم وصهيوني“
[علاء وهيب عقيد ضمن صفوف جيش الإحتلال الإسرائيلي]
أفردت صحيفة ”يسرائيل هيوم“ مقابلة وتقريرًا مطولًا مع العقيد علاء وهيب، 07.09.2012، وعنونتها بـ” عربي. مسلم. صهيوني“. تبدأ المقابلة باقتباس من علاء يقول فيه: ” منذ جيل صفر، قالوا لي إن إسرائيل سيطرت على فلسطين [وهو يستخدم الكلمة العربية هنا] ولكن في جيل الرابعة عشر تفتحت عيناي على الحقيقة، وهي أن اليهود ليسوا أناساً سيئين.“ علاء من الرينة في الجليل وهو في الثانية والثلاثين عاماً، وصل إلى أعلى رتبة يتقلدها مسلم في صفوف جيش الاحتلال، كما يخبرنا المقال. يرد علاء حول سؤال الصحفية عن سبب خروجه للملأ بصوره واسمه، على الرغم من معاداة الكثير من أبناء قريته له وتسميته بالخائن فيقول: لأن الكثيرين يريدون أن ينضموا لصفوف الجيش ويخافون. وهو يريد أن يشجعهم، ليكون بمثابة قدوة لهم ليروا ما الذي يمكن أن يحصل عليه أي شخص بمجهوده عندما ينضم للجيش. ولا يتحدث التقرير مثلاً عن أن أغلب المجندين من غير اليهود يوضعون في وحدات خاصة تسمى ”وحدات الأقليات“، مع بعض الاستثناءات. وعلى الرغم من اعتراف علاء، بأن هناك من يقابله بالمجتمع الإسرائيلي وحتى زملائه في الجيش، بنوع من الريبة والشك، إلا أنه عازم على طريق ”الصواب“ وخدمة الدولة كـ“عربي إسرائيلي وصهيوني“. ندرك هنا أنه يمكن للمرء أن يكون عربياً وصهيونياً ومسلماً، دون أي تناقض بين هذه الانتماءات، لأن صدر الصهيونية رحب يتسع للجميع! هذا هو الجزء الأول من المعادلة الذي يقدمها المقال لنا.
أما الجزء الثاني من هذه المعادلة فيمكن تلخيصه بالتالي ”إن من هو عربي في هذه البلاد، ولا يؤمن بالصهيونية وينتقد سياسة إسرائيل يمكن زجه بخانة الفاشيين ومنكري المحرقة والمعاديين للسامية.“ في مستهل المقال يقول علاء ”إكتشفت أن اليهود ليسوا أناساً سيئين.“ استخدام كلمة ”يهود“ بدل إسرائيليين يدق ناقوس الخطر، عند القارئ الإسرائيلي ويدغدغ مشاعر الضحية. ويصبح الإسرائيليون ضحية للفلسطينيين. حيث يتماهى هنا الإسرائيلي باليهودي. أما مربط الفرس فهو في الفقرة الخامسة، التي تخبرنا بالحرف الواحد عمّا رمزت إليه الجملة الأولى. في إطار حديثه عن زيارته مع ضباط آخرين لبولندا لأحد معسكرات ضحاية المحرقة النازية يقول ”لقد تربيت في مجتمع ينكر المحرقة. ذهلت عندما وصلت لبولندا [ورأيت معسكرات النازية] بكيت كثيراً، وكان من الصعب علي استيعاب معنى محو شعب. لقد كان شيئاً عظيماً أن أقف على أرض بولندا، مرتدياً ملابس جيش الدفاع الإسرائيلي، من موقف قوة. لقد كان هذا إثباتاً أننا لا ننكسر.“
تستغرب الصحفية حديثه بضمير المتكلم، حيث أن المحرقة النازية لم تقترف ضد عائلته، بل ضد يهود أوروبا وألمانيا، وتسأله عن سبب حديثه بصيغة الجمع. ويأتي الجواب كالتالي ”أنا مؤمن بديني الإسلامي ولا أريد أبداً أن أغير هذا الدين. ولكن أعتقد أن الصهيونية أكثر بكثير من مجرد دين، إنها أمر يمثل شعوري بالإنتماء لدولة إسرائيل وللمجتمع الإسرائيلي، وهذا واجبي من أجل الحفاظ على الدولة التي أنا جزء منها.“ إن الدعاية والترويج لإنتماء ”عربي صهيوني إسلامي/مسيحي/درزي“ هدفه الترويج لهوية إسرائيلية صهيونية لوأد صمود فلسطينيي الداخل، وتحقيق ما لم تتمكن المؤسسات الإسرائيلية من تحقيقه حتى الآن، وهو محو هويتهم، وجعل منهم أجيال تنسى بعدما مات الكثيرون من الكبار الذين عاصروا النكبة. لتتحقق مقولة بن غوريون عن الفلسطينيين ”الكبار سيموتون والصغار سينسون“.
لا يتوقف المقال الذي احتل أربع صفحات من الجريدة عند هذا الحد. بل يتحفنا بالكثير من الآراء المسبقة عن المجتمع العربي عامة، كمجتمع عنصري وطائفي يستخدم العنف. وعن علاقته بعائلته يقول صاحبنا إنها لم تحاربه بسبب إنضمامه للجيش، وإنما لأنه أحب فتاة مسيحية. ولكي لا يصل الأمر إلى عنف جسدي، بعد التهديدات التي وجهت له بسبب هذه العلاقة، قرر قطع علاقته بالفتاة وبعائلته كذلك. وطبعاً يختتم المقال بالأمنيات أن يحل السلام والمساواة على العباد لأن هذا ممكن وليس بعيد المنال في الدولة الفتية!
”جيش الدفاع الإسرائيلي يهنئ المسلمين، وجنوده من المسلمين، بحلول رمضان“
أرسل الجيش الإسرائيلي للفلسطينيين رسالة تهنئة بحلول رمضان. المثير فيها: أولاً مرة أخرى دعاية للجيش أن صفوفه لا تضم اليهود فحسب، وإنما أيضاً مسلمين في هذه الحالة. فهو جامع للهويات، وهو ليس ”جيش احتلال“ وإنما جيش دفاع متحضر وحاضن وقابل للتنوع. والأهم أن ضباطه يتحدثون العربية وكل هذا مترجم للإنجليزية لتلميع صورة الجيش أمام العالم. إن الدعم غير المشروط الذي تلقاه إسرائيل من أغلب الدول الغربية وعدد لا بأس به من الدول العربية، لن يلقى تراجعاً إلا عن طريق ضغط الشارع، كما كان الحال عليه فيما يتعلق بجنوب إفريقيا وسقوط نظام الأبارتهايد.
إن دولة إسرائيل تنفق أموالاً طائلة من أجل تحقيق ضمان وجود دعم شعبي غربي لها. وعلى الرغم من أن استطلاعات للرأي أجريت مؤخراً في الكثير من الدول الغربية تضع إسرائيل من بين الدول الأقل شعبية في العالم، إلا أن هذا لا يترجم بالضرورة إلى حركة شعبية فعالة داعمة للفلسطينيين ومناهضة للإحتلال، تكون ورقة ضغط من أجل التوصل إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية. وأحد هذه الطرق من أجل تلميع صورة الجيش والحكومة الإسرائيلية هي الدورات التي تقوم بها بعض الجامعات الإسرائيلية بعرضها ضمن منهج التدرس الجامعي لمن يرغب، من أجل تجنيد جيوش من الإسرائيليين، على شبكات التواصل الإجتماعي وفي الخارج أينما ذهبوا كسفراء لها.
إن الجهود الحثيثة لاجتذاب الفلسطينيين في الخدمة العسكرية أو ”الخدمة المدنية“ تجئ في فترة تشهد فيها الكثير من الدول العربية حراكاً شعبياً وثورات. ولا يهم هنا، ما آلت أو ستؤول إليه هذه الثورات ومدى نجاحها. المهم هو تبعات كسر حاجز الخوف في العالم العربي وتأثيرها على باقي الفلسطينيين على أرض فلسطين، في الداخل أو في باقي الأراضي المحتلة عام 67. ولا انتقص هنا بتاتاً من شأن الاحتجاجات والانتفاضات التي شهدتها فلسطين منذ النكبة حتى الآن. ولكن، بعد أوسلو والانتفاضة الثانية والانقسام الداخلي، تشهد الساحة الفلسطينية انتكاسة وغياباً للحراك الشعبي. ومن شأن كسر حاجز الخوف أن يمتد لهذه الجموع مرة أخرى. وقد رأينا كيف تعاونت سلطة رام الله وسلطة غزة مع الإحتلال وأعلنتا عدم إنضمامهما لإضرابات يوم 15 تموز ضد مخطط ”برافر“. بل إن حماس ذهبت أبعد من ذلك لتبعد المتظاهرين ولا تسمح لهم بالحصول على تراخيص تظاهر كما ذكر ناشطون سياسيون في غزة.
لا شك أن لا إسرائيل، ولا السلطتان، تريد أن تنتقل ”عدوى“ الثورات إليها. وفي ظل اسبتعاد رموز وطنية لفلسطينيي الداخل، وسجن رموز أخرى تبقى هذه التحركات ”يتيمة“ تحتاج لصبر أكثر وإلى كسر لحاجز الخوف عند الكثيرين، وتبقى حركات الشباب المنظم الإحتجاجات وحيدة إلى حد ما، مع بعض الاستثناءات التي لم تتمكن من حشد الجموع خلفها. إن فلسطيني الداخل (48) يواجهون اليوم، أكثر من أي وقت مضى ربما، محاولات صهرهم داخل المجتمع الإسرائيلي ومحو هويتهم الفلسطينية وتخويفهم والتفريق بينهم من أجل تسديد الضربة القاضية، والتركيز على التجنيد ”والخدمة المدنية“ في الآونة الأخيرة ياتي في هذا السياق.